كم مرة علينا أن ننتبه من غفلتنا لنفهم أن أمريكا نفسها تعاني ضيقًا في التنفس..وصدرها لا يَتَّسِعُ للجميع وشيطانها لا يُحِبُّ اللون الأسود إلا إذا تعلق الأمر بسواد فستان سهرة عاري الصدر ينساب فوق جسد هوليودية تسير الهوينى فوق بساط أحمر..
مقتل المواطن الأمريكي جورج فلويد ذي البشرة السوداء خنقا تحت ركبة شرطي أمريكي أبيض أعاد إلى الواجهة معاناة السّود ببلاد العم سام والعم دونالدز الذي لم تنجح “هامبرغاراته” في جعل الجميع متساوين أمام صحن الديموقراطية الأمريكية التي تتباهى به وهي تحمل شوكة “الإتيكيت” وسكين “البرستيج” بين الدول..وتسعى حثيثا لتصديرها للعالم مُعلَّبَةً في “كارتونةٍ” إعلامية تعرف جيدًا كيف تُغَلَّفُ العقول بل وتعد الرائدة عالميًا في حروب الإعلام النفسية أو البروباغندا..
على مدى سنوات طويلة نجحت أمريكا في تسويق صورة بشعة ومخيفة عن السكان الأصليين “الهنود الحُمر”..وصورتهم من خلال أفلام “الويسترن” كأناسٍ همجيين متوحشين متعطشين للدماء وآكلين للحوم البشر..فيما أدخلت يدها في جيب الكاوبوي لتخرج بيضاء من غير سوء..وتقدم لنا شكل الإنسان الأمريكي الحضاري ذي القبعة وسروال “جينز” الذي يسعى إلى تطهير “الإلدورادو” من هؤلاء القتلة الدمويين..والحقيقة أنها نجحت في ترسيخ هذه الصورة نجاحًا باهرًا..فقتلت القتيل وسارت في جنازته..وكم هي عدد الجنائز التي مشت فيها مُشَيِّعةً على كتفيها كل الحقائق التاريخية التي تدينها لتلقي بها في حفرة حفرها السُّذَّجُ من الذين صَدَّقوها فانطبق عليهم المثل العربي القائل “ألا أُكِلْتُ يوم أُكِل الثًَّور الأبيض..”
وهاهي أمريكا اليوم تُسْقِطُ عنها ورقة التّوت كاشفة بكارة ديموقراطيتها المُفْتضَّةِ أمام العالم كله..حين قدمت اعترافًا صريحًا بأنها ليست للجميع..اعترافها الذي جاء بعد مقتل مواطنها فلويد خنقا على يد أشخاص المفروض أنهم رجال شرطة يطبقون القانون ويسعون لحماية الأرواح بدل إزهاقها..والعالم كله شاهد وسمع تلك الاستغاثة التي ستظل تَرِنُّ طويلًا في أذن العدالة الأمريكية..
“لا أتنفس” بهذه العبارة صرخ المواطن الأمريكي فلويد وهو مقيد وممدد على الأرض والركبة الثقيلة البيضاء تضغط غير آبهة بتلك النبضات التي أخذت تخفت شيئًا فشيئًا إلى أن أغمي على الرجل قبل أن يُحمل داخل سيارة إسعاف ولتأتي الأخبار معلنة وفاته..ما أدى إلى انفجار المجتمع الأمريكي ذي الأصول الأفريقية وبتضامن من مواطنين من ذوي البشرة البيضاء مطالبين بشيء واحد وهو العدالة لروح فلويد..فكانت النتيجة عنف لا ينتهي واستعمال مفرط للقوة من طرف رجال الشرطة وتهديد من الرئيس ترامب بإنزال الجيش إلى الشوارع كلها صور خَدشت وبكل تأكيد شيئًا من الواجهة الزجاجية الأمريكية التي ظلت تظهر بها أمام العالم طوال عقود من الزمن..
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي كشف عورات كثير من الأمور وكشف نقاب الكثيرين هاهو ذا مرة أخرى يزيد الأمر احتقانا بتغريداته التي رأى فيها البعض استفزازًا صريحا لمشاعر الأمريكيين خصوصا بعدما سمى ما يحصل بالإرهاب المحلي..دون أن يتكلف أحد عناء اقتراح فتح تحقيق في حوادث التخريب التي ولا شك هدفها شيطنة حراك السّود ضد العنصرية التي لاتزال ترخي بظلالها في عالم كل ما فيه يخبرنا أن الإنسانية المضطهدة لا توجد فقط في بلدان الحاكم الواحد والسلطة المطلقة بل توجد أيضا في “مينيابوليس” ومختلف الولايات الأمريكية..
على العالم أن يفهم أن الانتصار للإنسان ليس مكانه فقط مخيمات اللجوء والجوع والصقيع والموت ولكنه يتخطّى الحدود ليصل إلى الدول التي تدعي الديموقراطية وتحت ركبتها تختنق الأحلام والآمال بأن يحيا بلال الأسود دون أن يَخْنُقَ آذان سلامه شرطي أبيض فيصرخ قائلا “أنا لا أتنفس”..
حمزة_لخضر