سياسة

الأزمي “حاشا واش هذا ادريس الثالث..”

 

شيء مؤسف أن تتحول أعرق مدينة مغربية عُرِفت بين العالمين بِعلمها وزُهْدِها وقدسية مكانتها بين المدن إلى مدينة كلُّ من فيها يُفكِّرُ بمغادرتها..بعد أن باتت مقبرة للأحلام، ولم تعد كما كانت من ذي قبل. فاس التي أُرغمت بفعل فاعل على أن تتحول من قطب صناعي واقتصادي وثقافي إلى معقل للبطالة والجريمة وضيق الأفق وانطفاء جذوة الأمل من قلوب شبابها وشاباتها، ليبدأ فصل الهجرة نحو الشمال الذي لم يعد موسميا كما كان.
الشباب الذين قد تصادفهم في الأحياء يجلسون القرفصاء ويسمعون لأغاني الشاب بلال ويلفون السجائر البنية المَحْشُوَّة ويحلمون “بالبابور وميلانو” هم ضحايا سياسة التهميش والبيروقراطية المتوحشة في أخذ القرارات و أيضا هم ضحايا سنوات طويلة من سياسة صَمّ الآذان، وبيع الأصوات مقابل ورقة زرقاء من فئة 200 درهم. والتلاعب بالمشاعر والمصائر بوعود كاذبة خاطئة وبرسم مستقبل مجهول مُبْهَمُ الملامح والتقاسيم.

ومن يرسم صورة أخرى غير هذه عن فاس فهو إما مستأجرٌ مُرْتَزق أو أعمى البصر والبصيرة أو يعيش في دنيا أخرى لا فاس فيها ولا مكناس.
جولة خفيفة على الأقدام ستجعلك تبحث مرارا عن شجرة تستظل بها وعن مكان لأطفالك ليلعبوا وعن حديقة عمومية بمعايير مناسبة لتمرح مع أسرتك قليلا، صدقني لن تجد إلا الإسمنت والأحجار وشوارع “الزفت” المغشوش الذي تعريه أمطار فاس الاستثنائية وتقتلعه كاشفة وجوه منتخبيها ومسؤوليها ومُسيريها، وحتى أشجارها التاريخية تم قَصُّ أغصانها والإجهاز عليها..
منذ أن اعتلى الأزمي رئاسة مجلس فاس التقيته مرتين لا أكثر، مرة عند دخوله حي عوينات الحجاج رفقة زبانية الحزب ووعود الإصلاح “كَتْشْيَّرْ” ويومها قال لي بالحرف سنحول هذا الحي الشعبي ليصبح مثل “سونطر فيل” ثم غاب الرجل بعدها ولم نعد نرى له أثرا حتى قلقنا بشأنه وتساءلنا ساخرين ماذا لو سقط رئيس مجلس مدينتنا في واحدة من حفر “الشانطيات” وقتها.
ثم التقيته مرة أخرى أثناء تسييري لإحدى اللقاءات وكان ضيفهم الكبير ويومها اقتربت منه وسألته عن وعده الذي قطعه قبل سنين فأجابني بابتسامة ونظرة عرفت معناها فبادلته ابتسامة واثقة وأكملت اللقاء بمهنية وحيادية وفي قلبي ترتعش فاس ودروبها وأزقتها.
نعم إنه الأزمي الذي قال عنه بنكيران أنه ولي الله الصالح بل وذهب بعيدا إلى حد وصفه بالمولى إدريس الثالث، هو نفسه الأزمي الذي كان يدق الأبواب ويتسول الأصوات وهو نفسه الذي قال بأنه سيقطع دابر فلول من سبقه في التسيير وأجهز على المدينة، في خطاب أشبه ما يكون بخطابات 25 يناير في مصر..وما حدث لاحقا أنه لا شيء قد تغير وأن الأمر لم يكن إلا مجرد حماسة زائدة ربما سببها مشاهدة قناة الجزيرة وتقارير فوزي بشري عن سقوط مبارك، و”كثرة الهم كتضحك”..
لا ملاعب للقرب تليق بشباب المدينة ولا مسابح لأولاد الشعب ليلطفوا بها حرارة الأجساد ولا حدائق للعموم ولا أشجار ولا مساحات خضراء ولا فرص للشغل ولا استثمارات ولاشيء في الأفق يلوح غير سنوات عجاف قد طالت واستحكمت حلقاتها فضاقت فاس بما رحبت على أبنائها وبناتها ليبدأ تنفيذ الحل الأخير بعد أن كان مجرد فكرة لا أكثر.
يحكي لي أحدهم أن ما يزيد عن عشرين شابا قرروا بيع دراجاتهم النارية والهوائية وهواتفهم النقالة وكل شيء ثمين يملكونه ليشتروا قاربا مطاطيا وليمخروا عباب البحر في اتجاهين أحدهما الضفة الأخرى أو الموت غرقا..
أخبرني بأسف كبير وبعيون تترقرق من بلل العتمة والبطالة وقلة الحيلة وقصر ذات اليد بأنه قد يغادر في أي لحظة..عانقته بعدها طويلا..وطلبت منه عدم التفكير في الأمر الذي يعد بمثابة انتحار..أجابني أليس البقاء هنا مُصفد اليدين مغلول الأحلام مقيد الأماني موتا مع وقف التنفيذ..؟
الفرق بين المسألتين أن هناك قد تموت غرقا فيما هنا تموت عرقا وعبثا ثم تتوسد قبرا ب 300 درهم..منتهى العبث..قمة العبث…!
كان يضحك ملئ شدقيه ويسخر من الأمر..ليسترسل فيما يشبه النصيحة بلكنة واثقة قائلا لي إياك أن تفكر أنت في الأمر..قبل أن يتابع ساخرا..نحتاج لمن يذيع خبر وصولنا سواء أحياء نرزق أو جثامين حسبها أنها قد حاولت..ويكفيها شرف المحاولة..وإن كانت محاولة أخيرة..
تركني في ذهول صامت ثم غادر وهو يدندن أغنية مجموعة السهام :
ويا مراكب الموت..وفينهوما الخوت للي ديتي البارح..؟
وفين بوعزة وأحمد..وفين صالح..؟
وفي ذهني ترددت عبارته..” جثامين يكفيها شرف المحاولة..وإن كانت محاولة أخيرة..!
وبكل ما تحمل الكلمة من “طنز” نقول لبنكيران “حاشا واش هذا مولاي ادريس الثالث..”

 

 

حمزة لخضر

 

قد يعجبك ايضا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق