غير مصنف

الدكتور محمد طلال.. ستظل هنا.. أنت الفكرة والفكرة لا تموت

-حمزة لخضر

هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها إلى المعهد وأنا أعرف أنك لن تكون هناك..

هذه هي المرة الأولى التي أنظر فيها إلى مكتبك المتواضع دون أن أجدك تقلب الأوراق وصفحات الجرائد..تلك الجرائد التي لن نُقَلِّبَ صفحاتها بعدك..فقد كنت الوحيد من يجيد قراءة الخبر..الوحيد من يجيد قراءة ماوراء الخبر..

أنزل الدرجات بهدوء..
كرسيك المتحرك الذي رافقك في آخر سنوات عمرك ليس هنا..
نظاراتك الطبية السميكة ليست على المكتب..
وحدها صورك رفقة شخصيات كثيرة من تخبر القادمين إلى هنا عنك..وحدها مسيرتك الطويلة من تكشف لنا أي رجل كان بين ظهرانينا..أي رجل كان الدكتور محمد طلال..
أسير عبر الممر..
على يساري القاعة الكبيرة التي حاضرت بداخلها طويلا.. هنا كنت تعمل على صناعة جيل مبدئي..جيل يحركه المبدأ الثابت لا كسرة الخبز “المدهونة”..
لا يزال صوتك هنا يتردد في هذه القاعة التي ضمت مشاهير السياسة والثقافة والرياضة والفن..وكلهم أحبوك..كلهم احترموك..وكلهم اليوم يفتقدونك ويدعون لك..
أي زمن هذا وأي توقيت هذا الذي اخترت الرحيل فيه إلى جانب الكبار الذين تَرَجَّلوا فجأة من على صهوة الحياة..
أخبرتني ذات مرة وأنا ضيف ببيتك -وصحفي متدرب يحاول اقتفاء أثار خطواتك- أنك اخترت الطريق الأصعب للوصول..فهمت بعدها أن أسهل الطرق تؤدي إلى نهاية واحدة وهي أن سالكها سيُنسى حيا قبل الممات..
وفهمت أيضا لماذا استعصى على الموت طَيّ صفحتك..لأنك وببساطة كنت فكرة والفكرة لا تموت..الفكرة تعيش أكثر منا..تُحلِّقُ عاليا بلا حدود..تجوب السماوات الرحبة..تخترق الحواجز والمتاريس والرادارات وأجهزة الاستشعار القوية..
الفكرة لا تستطيع طائرات الجيل الخامس الذكية إسقاطها..الفكرة تمتد وتمتد وتبقى..
على يميني استوديو المعهد الذي وضعت أولى لبناته لينطلق منه بعد ذلك أشهر الصحفيين والإعلاميين بالمغرب وخارجه..وعلى جدران الممر قد ظهرت شخوص الذين حضروا إلى هنا..
على جدران الممر تنطق هذه الصور..تُحِيل صمت المكان إلى صخب جميل..
إلى ضجيج نعشقه..
تختلط الأصوات الكثيرة..
حناجر عدة هنا تصدح من هذه الجدران..
أصوات من أقصى اليمين وأصوات من أقصى اليسار..استطعت أن تَضُمّ في صدرك الواسع المستحيل..
استطعت أن تجمع النقيضين..مَن تُراه قد يفعل هذا غيرك..
أنت وحدك من استطاع فعل هذا..
أنت وحدك لا أحد آخر غيرك..
كل صورة هنا تظهر كم كنت حريصا على تقديم الأجوَد للذين سبقونا..لنا نحن..وللذين سيأتون من بعدنا..
أعود أدراجي..
أُلقي نظرة أخرى على مكتبك أتأكد أنك لست هنا..الجرائد ليست فوق الطاولة المعدة للضيوف..
لا شك أن انتظارك كان طويلا..كان جميلا..
أرفع بصري ها أنذا أراك..أنت لست هنا بمكتبك..أنت هنا وهناك..
أنت في كل مكان..في كل ركن..في كل زاوية..أنت أكبر من أن تنحصر في الزوايا..أنت على شاشة التلفاز..على أمواج الإذاعة..في صفحات الجرائد..وعلى الفايسبوك..أنت في الكتب..في الأحلام..في الأمنيات..في أمسيات الصيف..في ليالي الشتاء..في ابتسامات الخريجين..في فرحة الأمهات..في فَخْرِ الآباء..في سعادة الصغار..
أنت في قلوبنا..تنبض لينبض معك الحلم..وتَسْتَحيلُ بذور القمح سنابل يانعة..سنابل ملأى..سنابل تنحني تواضعا..سنابل تُجَاور شقائق النعمان..سنابل تُحَاوِرُ شقائق النُّعمان..
هذه نشرة لا نهاية لها..هذه نشرة كتبها الدكتور محمد طلال وستبقى ما بقيت الفكرة في قلوبنا..خالدة..تتحدى الانتهاء..
الآن فقط أدركت أنك رحلت لتعيش إلى الأبد..
مكتبك لا يزال هنا..وأنت لا تزال هنا..
شكرا لك أستاذي على كل شيء..والرحمة الواسعة على روحك الطيبة..

قد يعجبك ايضا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق