مجتمع

كلمة الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة احتضان المملكة المغربية لفعاليات الاجتماع الثالث لجمعية النواب العموم العرب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه.

يطيب لي في البداية أن أعبر لكم عن خالص مشاعر السعادة التي تغمرني بلقائكم، بالنظر لما يرمز له هذا الجمع من عمق أواصر الأخوة بين الأشقاء العرب، ولما يجسده من التحام أعضاء النيابات العامة بالوطن العربي خدمة لقضايا العدالة، وأرجو لكم مقاماً طيباً بالمدينة التي ما تزال تلملم جراحها وتعالج آثار المصاب الجلل ليوم ثامن شتنبر الماضي.
وأجدها فرصة سانحة لأتقدم للسيد الوكيل العام للملك رئيس النيابة العامة بالمملكة المغربية بموفور الشكر على تشريفي بالمشاركة في الجلسة الافتتاحية لهذه الندوة الدولية المنعقدة على هامش الاجتماع السنوي الثالث لجمعية النواب العموم العرب، والتي يتشرف المغرب باحتضان فعالياتها.
حضرات السيدات والسادة؛
إن الحديث عن مكافحة السلطات المغربية لجرائم الفساد يضعنا أمام مسار متسم بالتبصر والتدرج. انخرطت فيه كل المؤسسات الوطنية وفي مقدمتها القضاء، مقتدية بالتوجيهات الملكية الرشيدة التي انخرطت فيها مختلف السياسات العمومية. معتمدة على شفافية الإجراءات، وتبسيط المساطر، وسهولة التظلم والتبليغ عن ممارسات الفساد، بالإضافة إلى الصرامة التي يتعامل بها النظام القضائي مع قضايا الرشوة واختلاس المال العام. وقد أدت هذه الجهود إلى الزيادة في منسوب الثقة لدى الفاعلين الاقتصاديين الوطنيين والمستثمرين الأجانب، بدأت تجلياته تظهر للعيان.
وكما تعلمون، فإن مكافحة الفساد ليست عملية ظرفية مرتبطة بتنزيل خطة عمل أو بإجراء إصلاح معين أو بتنفيذ توصيات، بل هو بناء مستدام يقتضي تطوير آليات ومناهج العمل بشكل مستمر، على النحو الذي يكسبنا السبق في مواجهة الجريمة المنظمة؛
وبالنظر للدور الحيوي الذي تلعبه السلطات القضائية في التصدي للجرائم موضوع هذه الندوة، فإن فهمنا العميق والموحد للتحديات والإكراهات التي تواجهها السلطات يعتبر مدخلا أساسيا لتحقيق النجاعة المرجوة في مجال التصدي لهذا النوع من الجرائم، ولعل أبرز هذه التحديات هو تدبير الإدارة القضائية.
فاعتبارا لما يتوفر لدى السلطات القضائية من معطيات، وما تضطلع به من اختصاصات على مستوى إنفاذ القانون والتحقيقات القضائية في جرائم غسل الأموال والفساد المالي، وتهريب المهاجرين والاتجار بالبشر وغيرها من صور الجريمة المنظمة، وكذا إصدار الأحكام والقرارات القضائية، واعتبارا لأدوارها على مستوى التعاون القضائي الدولي تفعيلا للاتفاقيات التي تبرمها بلادنا، كان لزاما التفكير في تطوير أساليب الإدارة القضائية لتواكب كل صلاحيات واختصاصات السلطات القضائية ودون المساس بالمبدأ الكوني لاستقلالها.
وفي هذا السياق، عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، تفعيلا لاختصاصاته الدستورية في صيانة الأمن القضائي وتحقيق النجاعة القضائية، ووفاء منه بالالتزام الذي سبق أن تعهد به عبر مخططه الاستراتيجي، على تأهيل هياكله وبنياته الإدارية، من خلال إحداث بنيات متخصصة في تتبع قضايا الجريمة وهو ما سيمكنه من:
تحقيق تواصل أفضل مع العمل القضائي للمحاكم: من خلال التزود بالمعلومات الضرورية لوضع وتنفيذ برامج النجاعة القضائية في مكافحة الجريمة، ولاسيما الجرائم موضوع هذه الندوة. وفي هذا الصدد يتم تتبع مدى احترام الزمن القضائي والأجل المعقول للبت في القضايا أو تنفيذ المقررات القضائية، وكذلك رصد تطور الجريمة وأساليبها عن طريق الحصول على المعلومات والبيانات بشأن القضايا الجنائية التي تكون موضوع اهتمام من طرف السياسات العمومية للدولة، أو موضوع رصد دولي، تنفيذاً للالتزامات الدولية للمغرب، ومن بينها جرائم الفساد.
تحقيق الأمن القضائي ومراقبة الالتزام بمعايير المحاكمة العادلة : من خلال المساهمة في تعميم ونشر الاجتهاد القضائي، والمعلومة القانونية في مجال مكافحة الفساد والجريمة المنظمة والرفع من الوعي الحقوقي لدى الممارسين، وكذا رصد الإشكاليات القانونية والعملية المطروحة على القضاء الجنائي واقتراح الحلول الكفيلة بتجاوزها، وإعداد مختلف الدلائل والشروحات القانونية في هذا الشأن.
تخليق المنظومة القضائية : حيث يولي المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أهمية بالغة لتخليق المنظومة القضائية. والرفع من المنسوب الأخلاقي لدى القضاة، باعتبار الوازع الأخلاقي فاعلاً حاسماً في دعم مبادئ العدل والإنصاف، باعتباره محفزاً لجعل الضمير رقيباً على تأطير السلوك، مما يدعم المسؤولية القانونية ويقويها. وفي هذا الإطار وضع المجلس مدونة للأخلاقيات القضائية حدَّدَتْ المبادئ الأخلاقية التي يتعين أن يلتزم بها القضاة، ومن بينها الاستقلال والنزاهة والحياد وغيرها، ووضع لها آليات لتتبعها ونشرها ومراقبة تطبيقها تتمثل في لجنة المجلس المكلفة بالأخلاقيات واستقلال القضاء، وكذا مستشاري الأخلاقيات، وهم من كبار المسؤولين القضائيين في جهات المملكة. لمساعدة المجلس على النهوض بهذه المهمة التي لها تأثير كبير على نزاهة القضاء.
حضرات السيدات والسادة؛
يتطلع المجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى أن تنعكس ديناميته الجديدة على الممارسة القضائية من خلال تجويد آليات تطبيق القوانين الموضوعية والإجرائية على الوقائع الجرمية المشكلة لجرائم الفساد بمختلف تمظهراتها؛ مواكبة منه للنشاط القضائي للهيئات المختصة، الموسوم بالزيادة والارتفاع المضطرد؛ وانخراطاً منه في سياسة عمومية وطنية مندمجة تروم محاربة الفساد والمساهمة في تخليق الحياة العامة، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة المسؤولة، وفقاً للتوجيهات الملكية السديدة التي ما فتئ جلالته يؤكد عليها في أكثر من مناسبة، ومن بينها تأكيد جلالته في الخطاب السامي الذي وجهه إلى الأمة بمناسبة الذكرى السابعة عشر لعيد العرش المجيد على “أن محاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع. الدولة بمؤسساتها من خلال تفعيل الآليات القانونية لممارسة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها للضرب بقوة على أيدي المفسدين”. ولذلك فإن مكافحة الفساد تعتبر أولوية في السياسة الجنائية التي تنفذها النيابات العامة بالمملكة المغربية، وهي كذلك من أولويات قضاء الموضوع الذي يستشرف بشأنها النفاذ إلى روح القانون وتحقيق المصلحة العليا للمجتمع والقيام بدوره كاملاً في مكافحة الجريمة وحماية النظام الاجتماعي في تجلياته الاقتصادية والأمنية والثقافية والإنمائية.
وفي الأخير لا يسعني إلا أن أجدد الشكر لكل من ساهم في هذا الملتقى المهني الرفيع سائلا الله لفعالياته السداد والتوفيق. ولكم طيب المقام في بلدكم الشقيق.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

قد يعجبك ايضا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق