دونور.. حين يصبح الإرث الجماعي موضوع بيع وشراء

ملعب محمد الخامس، أو “دونور” كما يسميه عشاق كرة القدم، ليس مجرد ملعب عادي في الدار البيضاء، بل صرح رياضي ارتبط بتاريخ المدينة وحياة سكانها. منذ افتتاحه عام 1955، ظل دونور شاهداً على لحظات لا تُنسى، من أفراح التتويج إلى لحظات الانكسار، ومن أهازيج الجماهير التي هزت مدرجاته إلى الدموع التي سالت فرحاً أو حزناً فوق عشبه الأخضر. واليوم، بعد عقود من المجد، يجد الملعب نفسه وسط جدل سياسي وإداري بعد أن طُرحت فكرة تفويته من جماعة الدار البيضاء إلى وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة.
القضية بدأت عندما دعت مديرية أملاك الدولة عمدة الدار البيضاء إلى تفعيل قرار جماعي يسمح بتفويت العقار الذي يحتضن المركب الرياضي محمد الخامس. وحسب وثيقة رسمية مؤرخة في فبراير 2025، تم تحديد ثمن الأرض في 48.4 مليون درهم، بمعدل 400 درهم للمتر المربع، بناءً على تقييم لجنة الخبرة المنعقدة في يوليوز 2024. الهدف من هذا التفويت، حسب وزارة الرياضة، هو تحسين تدبير الملعب وضمان استدامته، خاصة مع التوجه نحو تطويره ليكون ضمن المنشآت المؤهلة لاستضافة كأس العالم 2030 التي سينظمها المغرب بشراكة مع إسبانيا والبرتغال.
رغم هذه التبريرات، قوبل المشروع بمعارضة قوية من طرف مجلس جماعة الدار البيضاء، حيث عبر أعضاء مكتب المجلس عن رفضهم التام للتفويت، معتبرين أن الملعب ملك لساكنة المدينة وليس مجرد “أصل عقاري” يمكن بيعه للدولة بثمن منخفض مقارنة بالقيمة السوقية الحقيقية للأرض. أعضاء المجلس شددوا على أن الجماعة قادرة على الاستمرار في إدارة دونور وتحسينه، دون الحاجة إلى نقل ملكيته لوزارة الرياضة. كما اعتبروا أن الملعب ليس مجرد مرفق رياضي، بل جزء من الهوية الجماعية للدار البيضاء، ومصدر فخر لسكانها.
في ظل هذا الجدل، خرجت ولاية جهة الدار البيضاء – سطات عن صمتها، مؤكدة في بيان رسمي أن الحديث عن “بيع الملعب” غير دقيق، وأن التفويت – إن تم – سيكون فقط بهدف تحسين تدبير المركب وضمان تطويره وفق المعايير الدولية. كما شددت على أن أي قرار نهائي بخصوص مستقبل دونور سيؤخذ بعين الاعتبار مصلحة المدينة وساكنتها. لكن هذا البيان لم يهدئ مخاوف الجماهير البيضاوية، خاصة مشجعي الرجاء والوداد، الذين يعتبرون دونور بيتهم الثاني، ويرون في أي تغيير لملكيته تهديداً لارتباطهم العاطفي بالمكان.
المثير في القضية أن هذا النقاش حول تفويت الملعب يأتي في وقت يخضع فيه دونور لعملية إعادة تهيئة ضخمة. المشروع يهدف إلى تحسين جودة العشب، تجديد المدرجات، تطوير المرافق، وتحديث الإنارة والأنظمة الصوتية، ليكون جاهزاً لاستقبال مباريات من المستوى العالمي. وإذا كانت الغاية هي تطوير الملعب، فلماذا لا يتم ذلك تحت إشراف الجماعة التي تديره منذ عقود؟ ولماذا يتم طرح خيار التفويت في هذا التوقيت بالذات؟ هذه الأسئلة تجعل البعض يتساءل عمّا إذا كان هناك مخطط أكبر من مجرد تحسين التدبير، وربما نية مستقبلية لإدخال أطراف جديدة في تسيير المركب، مثل شركات استثمارية أو مؤسسات خاصة.
الأكيد أن ملعب محمد الخامس ليس مجرد قطعة أرض بمساحة محددة وسعر قابل للتفاوض. إنه ذاكرة مدينة، رمز كروي، ومسرح لحكايات لا تُعد ولا تُحصى. لذلك، فإن أي قرار يمس مستقبله يجب أن يكون مدروساً بعناية، وأي خطوة نحو تغيير وضعيته القانونية يجب أن تُناقش بشفافية أمام الرأي العام. فالملاعب الكبرى في العالم تُحافظ عليها المدن كجزء من إرثها، وليس كعقارات قابلة للبيع أو التحويل. فهل تستوعب الدار البيضاء هذا الدرس، أم أن دونور سيُصبح مجرد رقم في سجلات التفويت العقاري؟