
في خطوة وصفت بالتحول النوعي نحو تحقيق محاكمة عادلة وتحديث منظومة العدالة الجنائية بالمغرب، أكد عبد القادر اعمارة، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أن المقتضيات الجديدة لمشروع قانون المسطرة الجنائية ستساهم بشكل كبير في تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة، وتبسيط الإجراءات القضائية، وترشيد مختلف المساطر القانونية.
جاء ذلك خلال عرضه أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب، حيث قدم اعمارة مخرجات رأي المجلس حول “مشروع القانون رقم 03.23” المتعلق بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية، بعد إحالته من مجلس النواب، مبرزاً أن هذه الإصلاحات تروم أيضاً تحسين حكامة جهاز النيابة العامة، وترشيد اللجوء إلى الحراسة النظرية والاعتقال الاحتياطي، مع تقوية حقوق الدفاع، وإضفاء طابع إنساني واجتماعي على التنفيذ الزجري للأحكام.
نحو ملاءمة تشريعية مع المعايير الدولية
اعتبر اعمارة أن مشروع القانون يأتي لتجسيد التزامات المغرب الدستورية، ولتعزيز ملاءمة المنظومة القانونية الوطنية مع المعايير الدولية لشروط المحاكمة العادلة. لكنه في المقابل أشار إلى أن المجلس، بعد استماعه لآراء مكونات الجسم القضائي والمجتمع المدني، وقف على ضرورة مراجعة شاملة لقانون المسطرة الجنائية، بالتوازي مع مراجعة مجموعة القانون الجنائي، لضمان انسجام التشريعات، ضمن إصلاح شامل لمنظومة العدالة.
وقد دعا المجلس إلى وضع برمجة دقيقة لهذه الإصلاحات، مع رصد الإمكانيات المالية والبشرية الضرورية لضمان تنزيلها الفعلي، ما يعكس وعياً بضرورة أن تواكب النصوص القانونية التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المغرب.
السياسة الجنائية: من منطق العقوبة إلى منطق الوقاية
أبرز اعمارة الحاجة إلى تبني سياسة جنائية مدعومة بدراسات أثر اقتصادية واجتماعية وبيئية، مع إشراك الفاعلين والمواطنين في صياغتها، معتبراً أن معالجة الجريمة لا يجب أن تقتصر على الردع القضائي، بل أن تشمل جذورها الاجتماعية والاقتصادية، عبر سياسات عمومية مندمجة قادرة على تجفيف منابع الانحراف والجنوح.
كما شدد على أهمية التطبيق الصارم لمبدأ قرينة البراءة، وضمان احترام كرامة المواطنين والمواطنات في كافة مراحل المسار القضائي، مع ضرورة تقوية مقاربة النوع الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بالجرائم المرتكبة ضد النساء، عبر وضع بروتوكولات خاصة بالبحث والتحقيق في قضايا مثل العنف والتحرش والاغتصاب.
حماية الطفولة وتسريع رقمنة العدالة
في ما يتعلق بالأحداث، شدد اعمارة على ضرورة تحقيق انسجام مقتضيات المسطرة الجنائية مع الالتزامات الدولية والدستورية للمغرب بشأن حماية حقوق الطفل، مع تعزيز دور الأسرة والمدارس والمساعدة الاجتماعية في المرافقة النفسية والاجتماعية للأحداث الجانحين، داعياً إلى إنشاء مراكز متخصصة في إعادة إدماجهم.
من جهة أخرى، حث على تسريع التحول الرقمي لمنظومة العدالة، مع دمج الرقمنة في جميع مراحل الإجراءات القضائية، بما يساهم في تبسيط المساطر وتعزيز الشفافية. كما أكد على أهمية تكوين القضاة في استخدام الذكاء الاصطناعي في البحث القانوني وصياغة الأحكام، لتطوير أداء الجهاز القضائي ورفع كفاءته.
بيئة سليمة وعدالة فعالة
لم يغفل اعمارة الجرائم البيئية، إذ دعا إلى تعزيز دور القضاء في حمايتها من خلال إلزام مختلف القطاعات المعنية بالتبليغ الفوري عن الجرائم البيئية، مع تكييف المساطر القضائية لتلائم خصوصية هذا النوع من الجرائم، وضمان انسجام النصوص التشريعية ذات الصلة.
أما في مجال محاربة الفساد وحماية المال العام، فقد شدد رئيس المجلس على ضرورة الحفاظ على حق الأفراد وهيئات المجتمع المدني في التبليغ عن الجرائم المالية، مع توفير الضمانات الكفيلة بحمايتهم من أي استعمال مسيء لهذا الحق، دعماً لانخراط المغرب في الجهود الدولية لمكافحة الفساد.
كما دعا إلى تفعيل الآليات القانونية التي تسمح للأفراد والمؤسسات بتقديم الشكايات المتعلقة بالمخالفات الإدارية والمالية، على غرار الأدوار المنوطة بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.
إشادة برلمانية ودعوة لمزيد من التعاون
من جهتهم، نوه نواب الأمة، من مختلف الانتماءات السياسية، بمضامين وتوصيات رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، معبرين عن نيتهم الاستئناس بها خلال المناقشة التفصيلية وتقديم التعديلات على المشروع القانوني. كما أشادوا بروح التعاون المؤسسي بين البرلمان والمجلس، معتبرين إياه نموذجاً يحتذى به في سبيل إرساء إصلاحات قانونية فعالة وشاملة.
بهذا، يبدو أن المغرب يسير بخطى واثقة نحو تحديث منظومته القضائية، لكن يبقى الرهان الأكبر هو حسن تنزيل هذه الإصلاحات على أرض الواقع، وضمان أن تحقق العدالة الجنائية غاياتها الكبرى في الإنصاف، والوقاية، وحماية الحقوق والحريات.
فاطمة الزهراء الجلاد.