سياسة
مجلس المستشارين يدعو إلى إعادة هيكلة شاملة لمنظومة التكوين المهني لمواكبة سوق الشغل

دق مجلس المستشارين ناقوس الخطر بشأن الفجوة المتزايدة بين منظومة التكوين المهني ومتطلبات سوق الشغل، حيث أوصت مجموعة العمل الموضوعاتية المؤقتة، المكلفة بتحضير الجلسة السنوية الخاصة بتقييم السياسات العمومية المرتبطة بالاستثمار والتشغيل، بضرورة إعادة هيكلة جذرية وشاملة لهذه المنظومة، بهدف الرفع من نجاعة الإدماج المهني وربط مسارات التكوين الفعلي بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المغرب.
وجاءت هذه التوصيات في ختام سلسلة من جلسات الاستماع والنقاش، عقدتها المجموعة بحضور ممثلين عن القطاعات الحكومية المعنية، والفاعلين الاقتصاديين، وخبراء في سوق الشغل والتكوين. وقد تم خلالها الوقوف على عدد من الاختلالات البنيوية التي تعيق أداء منظومة التكوين المهني، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الدولة في السنوات الأخيرة.
تحولات سوق الشغل تفرض مراجعة شاملة
أشارت المجموعة في تقريرها إلى أن منظومة التكوين المهني، كما هي قائمة اليوم، لا تواكب بشكل كاف التحولات المتسارعة في طبيعة المهن والمهارات المطلوبة، خصوصًا في القطاعات ذات القيمة المضافة العالية مثل الرقمنة، والطاقات المتجددة، والصناعة المتقدمة، والخدمات اللوجستيكية.
وفي هذا السياق، أوصى التقرير بضرورة إحداث مرصد وطني ديناميكي للمهن والكفاءات، يعمل على تتبع الاتجاهات الجديدة في سوق العمل، ويوفر قاعدة بيانات دقيقة تمكن من التوجيه الاستباقي لبرامج التكوين، وتساعد على صياغة سياسات عمومية فعالة وملائمة للواقع الميداني.
شراكة استراتيجية بين الدولة والقطاع الخاص
كما دعا التقرير إلى تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص في إعداد وتدبير برامج التكوين، من خلال تشجيع نموذج التكوين بالتناوب، واعتماد مقاربات مبنية على النتائج، وربط مؤسسات التكوين مباشرة بالمقاولات والفضاءات الاقتصادية، لتسهيل الانتقال من التكوين إلى التشغيل.
وفي هذا الإطار، تم التنويه بنجاعة بعض التجارب الناجحة للمراكز ذات التدبير المفوض، التي استطاعت تحقيق نسب إدماج مرتفعة لخريجيها، بفضل ارتباطها الوثيق بحاجيات السوق وانفتاحها على محيطها السوسيو-اقتصادي.
ضرورة العدالة المجالية وتشجيع التكوين في المناطق الهشة
التقرير لم يغفل كذلك البعد الترابي في التكوين، حيث أكد على أهمية إرساء سياسة تكوين ترابية تأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل جهة، مع دعم التكوين في المناطق القروية والنائية، عبر برامج متنقلة، وتكوينات قصيرة المدى مرتبطة بالأنشطة الاقتصادية المحلية كالفلاحة، والصناعة التقليدية، والصيد البحري.
كما تمت الإشارة إلى ضرورة إعادة الاعتبار لصورة التكوين المهني لدى الشباب والأسر، من خلال حملات تحسيسية وطنية وإدماجه في الإعلام المدرسي والجامعي، لتجاوز الصور النمطية السلبية التي ما تزال تحيط بهذا المسار.
منظومة التكوين في قلب النموذج التنموي الجديد
تأتي هذه التوصيات في سياق وطني خاص، يتسم ببحث المغرب عن نموذج تنموي جديد أكثر عدالة واستدامة. وينظر إلى التكوين المهني كأحد الأعمدة الأساسية في هذا المسار، لكونه يشكل أداة حيوية لإدماج الشباب، والرفع من تنافسية الاقتصاد الوطني، وتقليص معدلات البطالة.
وتعكس خلاصات مجلس المستشارين إقرارًا بأن أي سياسة عمومية طموحة في مجال التشغيل لا يمكن أن تحقق أهدافها دون منظومة تكوين حديثة، مرنة، ومندمجة مع متطلبات السوق، قادرة على مواكبة الابتكار وتطور المهن، ومبنية على شراكة حقيقية بين الدولة والفاعلين الاقتصاديين.
يوضح هذا التقرير أن مستقبل التكوين المهني في المغرب يحتاج إلى إصلاح عميق يتجاوز مجرد التحديث التقني أو اللوجستيكي، نحو مراجعة فلسفية وبنيوية تعيد تعريف علاقة المؤسسة التكوينية بالواقع الاقتصادي، وتجعل من الشباب المغربي فاعلًا حقيقيًا في دينامية الإنتاج بدل أن يكون مجرد متلقٍ سلبي لفرص نادرة.
ويبقى التحدي الأكبر اليوم هو ترجمة هذه التوصيات إلى قرارات سياسية فعلية، مصحوبة بإرادة حقيقية للإصلاح، وإطار قانوني وتنظيمي متجدد، واستثمارات مستدامة تجعل من التكوين المهني قاطرة حقيقية للإقلاع الاقتصادي والاجتماعي.
فاطمة الزهراء الجلاد.