وثيقة الرباط: “الإيمان في عالم متغير” تدعو لتعزيز العلاقة بين الدين والعلم والفلسفة

أصدرت “وثيقة الرباط: الإيمان في عالم متغير” تأكيداً على أهمية تعزيز العلاقة بين الدين والعلم. وأشارت الوثيقة إلى أن التكامل بين الإيمان والحياة، وبين المعرفة والفلسفة، أمر جوهري لمواجهة الانحرافات الناتجة عن الإلحاد العدمي والفكر المادي الذي يستبعد الروحانيات والقيم عن دورها المركزي. وأكدت الوثيقة أن هذا التكامل يبرز مكانة الإنسان ودوره في الكون، ويضع الطبيعة في سياقها الصحيح، مما يجسد أهمية الإيمان في التوصل إلى معاني وجودنا على هذا الكوكب وأهدافه.

جاءت هذه التصريحات ضمن “وثيقة الرباط” الصادرة عن “المؤتمر الدولي الإيمان في عالم متغير”، الذي نظم في العاصمة المغربية بمبادرة من “الرابطة المحمدية للعلماء” و”رابطة العالم الإسلامي”. المؤتمر شهد حضوراً لافتاً لممثلين عن مختلف الأديان، في تجمع استثنائي يعكس أهمية الدين ودوره المحوري في توجيه الحياة العامة، بما يحمله من قيم تدعو إلى التآخي الإنساني ومبادئ تحفز على التطوير والإبداع، بهدف تحقيق رخاء المجتمعات وسلام العالم وتآلف مكوناته.

المؤتمر، الذي نظم برعاية ملكية، شهد إشادة بالجهود المباركة التي تبذلها المملكة المغربية، برئاسة الملك محمد السادس، للإسهام في توحيد الشعوب وتعزيز التقارب بين مكوناتها، انطلاقاً من دورها التاريخي في الكيان العربي والإسلامي والإنساني. دعا المشاركون في المؤتمر إلى تأسيس “هيئة إنسانية إيمانية رائدة” تحت مسمى “المرصد الدولي لدلائل الإيمان ومواجهة الشبهات”، بهدف ترسيخ مبادئ الإيمان وتعزيز قيمها الأخلاقية، ورصد الشبهات المثارة والأجندات المشبوهة للفوضى التحررية والعدمية الإلحادية، من خلال كتابات مستوعبة وندوات متخصصة، تُستخدم لإنجاح أهدافها الوسائل الرقمية والإعلامية الحديثة، مع نشر تقرير سنوي بأعمالها ومنجزاتها باللغتين العربية والإنجليزية.

وأبرزت الوثيقة مركزية الدين في قيام الحضارات وازدهارها، وأثره في صياغة أفكار المجتمعات وتقويمها، وقدرته على مواجهة المشكلات ومعالجتها. وذكرت أن تهميش دور الدين في الاهتداء الروحي والإرشاد العقلي يفتح الباب واسعاً أمام مظاهر الفوضى الأخلاقية والسلوكيات المنحرفة والإباحية المهينة، مما يضع العالم أمام حالة غير مسبوقة من التردي الأخلاقي والانحلال القيمي.

وأكدت الوثيقة أن القيم الأخلاقية تستند إلى الفطرة الإنسانية وتتأكد بالرسالات الإلهية، وتبقى أصلاً مشتركاً ومرتكزاً ثابتاً وإطاراً جامعاً تنبع منه الأفكار المستنيرة والأطروحات الرشيدة في مسيرة الحضارة والتقدم. وبقدر رسوخ تلك القيم في الوجدان الإنساني يتحقق الأمن والوئام المجتمعي. وشددت على أن الإنسان هو محور الرسالات الإلهية، مؤكدة على حفظ كرامته وصيانة حقوقه وحرياته المشروعة، والاعتراف به وجوداً وحضارة، أياً كانت هويته الدينية والوطنية والإثنية، واعتباره أخاً مشاركاً في بناء المجتمع وتنميته.

ودعت الوثيقة القيادات الدينية والفكرية والمجتمعية حول العالم إلى استثمار الإرث الإنساني المشترك للحفاظ على المكتسبات الحضارية المتراكمة عبر التاريخ، والتصدي للظواهر السلبية التي أفرزتها العولمة، واحتواء الآثار المدمرة التي سببتها الجوائح والأوبئة والحروب.

كما نادت “وثيقة الرباط” بالتعاون والتكامل بين المكونات الدينية المختلفة واستثمار مشتركاتها المتعددة كمسار أنجح لصياغة الأطر الفكرية الرشيدة للتحصين من مخاطر السلوك المتطرف، وتحييد خطاب الكراهية، وتفكيك نظريات الصراع والصدام. وأكدت على التزام المنهجية العلمية الرصينة في تفسير النصوص، وفهم الحقائق الدينية وتوضيح المصطلحات والمفاهيم الفكرية، وتنزيلها على المستجدات العصرية، بما يحقق مقاصد الدين في حفظ الضروريات وتحقيق التوازن والاعتدال.

وشددت الوثيقة على أن الحوار بين الأديان والثقافات قيمة عليا تساهم في بناء جسور التواصل بين الشعوب، وتفتح أبواب التعارف وتداول المعارف، وتوسيع التفاهم والاحترام المتبادل، مما يرسخ العلاقات الإنسانية على أسس من التعاون والتسامح، ويعزز من قدرة المجتمعات على مواجهة تحديات العصر بروح منفتحة ومقتنعة.

كما سجلت الوثيقة أن التكنولوجيا والتقدم العلمي والذكاء الاصطناعي وسائل رئيسة في تشكيل الفكر والوعي والرقي بسلوك المجتمعات، وتتطلب المسارعة إلى استغلالها، والاهتمام بتطوير وسائل التربية الدينية وتجديد طرقها لتتلاءم مع العصر الرقمي والتطورات المتسارعة، لبناء جيل قادر على فهم العالم المحيط به من منظور إيماني راسخ ومتجدد.

ودافعت “وثيقة الرباط” عن كون التضامن بين الشعوب السبيل الأمثل لمواجهة التحديات العالمية الكبرى، مثل التغير المناخي وهدر الموارد وشحها، وحماية البيئة والمحافظة على الثروات الطبيعية. وأبرزت أن المرأة في إطارها الإيماني تعد مصدراً للنور والإشعاع الحضاري، مؤكدة على دورها الرئيسي في الأسرة، وتربية الناشئة والعناية بها، وترسيخ التآلف والانسجام بينها، وتحصين الأجيال الصاعدة من فوضى المشاعر واضطراب الأفكار.

 

فاطمة الزهراء الجلاد