يشهد المشهد الاجتماعي في المغرب تحولات عميقة مع انطلاق نقاش وطني حول مراجعة مدونة الأسرة. هذه المراجعة، التي طال انتظارها، تهدف إلى مواكبة التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها المغرب، وتلبية تطلعات شريحة واسعة من المجتمع. ورغم الأهمية البالغة لهذه المراجعة، إلا أنها أثارت جدلاً واسعاً، خصوصاً مع انتشار المعلومات المغلوطة والشائعات عبر منصات التواصل الاجتماعي، وفي خضم هذا الجدل، يصبح من الضروري تصحيح هذه المفاهيم وتوضيح الحقائق.
الحضانة والنفقة: من يتحمل المسؤولية؟
أحد أكثر المغالطات شيوعاً هو الاعتقاد بأن الأم التي تحتفظ بالحضانة بعد زواجها تلزم الزوج الأول بالإنفاق عليها وعلى زوجها الجديد. الحقيقة هي أن القانون المغربي يوجب الأب بالإنفاق على أبنائه فقط، ولا يشمل طليقته بعد انتهاء فترة العدة. بالإضافة إلى ذلك، يحق للأب طلب إسقاط الحضانة إذا ثبت أن مصلحة الطفل غير متحققة مع الأم.
في الشريعة الإسلامية والتشريع المغربي، تُمنح النساء الأولوية في الحضانة، حيث يأتي الأب في المرتبة الخامسة بعد الأم وجدتها وأختها وجدتها من جهة الأب، بهدف ضمان استقرار الطفل ورعايته من الأقرب إليه وجدانياً واجتماعياً.
العمل المنزلي وتقاسم الثروة: حقيقة التشريع المقترح
يُثار كثير من الجدل حول مفهوم “تقاسم الثروة” بين الزوجين، وهو مفهوم أثار جدلاً كبيراً منذ صدور مدونة الأسرة عام 2004. في المراجعة الجديدة، لا يُفرض على الرجل تقاسم جميع ممتلكاته المكتسبة قبل الزواج. التعديل المطروح يقتصر على تثمين العمل المنزلي للزوجة، معتبراً إياه إسهاماً فعلياً في تكوين الثروة المكتسبة خلال فترة الزواج.
تطبيق هذا التعديل يعتمد على عدة عوامل، منها مدة الزواج وظروف الطرفين، ويُعد خطوة نحو الاعتراف بقيمة العمل غير المدفوع الذي تقدمه الزوجة، دون أن يفرض أي التزامات مالية مرهقة على الأزواج.
السكن بعد وفاة الزوج: ضمان الاستقرار أم تعدي على الميراث؟
تتضمن المقترحات الجديدة في مدونة الأسرة تمكين الزوجة والأبناء من البقاء في بيت الزوجية لفترة محددة بعد وفاة الزوج، بدلاً من تمليكه لهم أو إخراجه من التركة بشكل دائم. هذا الإجراء يهدف إلى حماية الأسرة من التشرد والضغوط الاجتماعية، خاصة في الحالات التي يكون فيها السكن هو المورد الوحيد للأسرة.
هذا التعديل يخضع لشروط قانونية دقيقة تراعي مصلحة جميع الأطراف، بمن فيهم الورثة، ويأتي استجابة للتحديات الاجتماعية الحالية دون المساس بحقوق الورثة الأخرى.
شهادة الزواج بالخارج: تيسير أم تغيير؟
انتشرت شائعة تفيد بأن التعديلات الجديدة تسقط شرط “الإسلام” في الشهادة على الزواج. هذه المعلومة غير صحيحة؛ فالتعديل المقترح ينطبق فقط على المغاربة المقيمين بالخارج، حيث قد يكون من الصعب العثور على شهود مسلمين في دول المهجر. يهدف هذا التعديل إلى تسهيل توثيق عقود الزواج وفقاً للقوانين المحلية لتلك الدول، مع الحفاظ على الشروط الشرعية داخل المغرب.
أبعاد المراجعة
التعديلات الجديدة تمثل خطوطاً عريضة تُمهّد لمرحلة صياغة النصوص القانونية النهائية، ما يعني أن العديد من التفاصيل ستخضع للنقاش والتدقيق قبل اعتمادها.
لعب المجلس العلمي الأعلى دوراً محورياً في دراسة هذه التعديلات والمصادقة على ما يتماشى مع الشريعة الإسلامية، مع تقديم حلول بديلة في بعض المواضيع الجدلية. كما أن المقترحات المعتمدة حظيت بموافقة ملكية، مما يعكس التزاماً بتحقيق التوازن بين الاجتهاد الشرعي والمصالح المجتمعية.
نقاط إيجابية
تُعد مراجعة مدونة الأسرة خطوة هامة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والتحديث التشريعي، وتهدف إلى تعزيز استقرار الأسرة وصون حقوق جميع أفرادها. فيما يلي أبرز النقاط الإيجابية التي جاءت بها هذه المراجعة:
– تبسيط إجراءات الزواج: تسهيل المساطر الإدارية والقانونية المرتبطة بالزواج، مما يجعل العملية أكثر سلاسة وشفافية.
– تعزيز القضاء المتخصص:تحسين البنية التحتية القضائية المتعلقة بقضايا الأسرة وتأهيل الموارد البشرية لضمان خدمة قضائية ذات جودة عالية.
– إنشاء هيئة للصلح والوساطة: تقديم بدائل قانونية مبتكرة لحل النزاعات الأسرية بطرق ودية، مما يقلل من الضغط على المحاكم ويساهم في تقليل التوتر بين الأطراف.
– تطوير نظام الطلاق الاتفاقي: إمكانية توثيق الطلاق بشكل ودي أمام العدول دون الحاجة إلى المرور بإجراءات قضائية معقدة، ما يسهل إنهاء العلاقة الزوجية برضى الطرفين.
إن هذه التعديلات في مدونة الأسرة تمثل تقدماً كبيراً في تعزيز استقرار الأسر المغربية وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات لكل من الرجل والمرأة، مما يساهم في بناء مجتمع أكثر عدالة وإنصافاً.
فاطمة الزهراء الجلاد.