الأحزاب اليسارية في المغرب: بين أزمة الهوية وتحديات البقاء في مشهد سياسي متغير

في المغرب، حيث التعددية السياسية تعدّ أحد أبرز معالم المشهد الوطني، تجد الأحزاب اليسارية نفسها أمام تحدٍّ وجودي غير مسبوق. هذه الأحزاب، التي شكلت لعقود من الزمن رافعة للنضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، أصبحت اليوم تعاني من تراجع حاد في التأثير السياسي والحضور الجماهيري. فبعدما كانت رمزًا للمعارضة الصلبة والحراك المجتمعي، باتت رهينة أزمات داخلية وخارجية جعلت مستقبلها محل تساؤل.

تاريخيًا، لعبت الأحزاب اليسارية أدوارًا محورية في مواجهة الاستبداد، ورفعت شعارات تجاوزت الإطار المحلي لتشمل قيمًا إنسانية كبرى كالمساواة والحرية. لكنها، ومع دخولها تجربة المشاركة في السلطة، اصطدمت بواقع سياسي معقد جعلها تضطر إلى تقديم تنازلات جوهرية أثّرت على مصداقيتها لدى قواعدها الشعبية. هذا التحول من المعارضة إلى التدبير أضعف روحها النضالية وأفرز إحساسًا بالخيانة لدى فئات واسعة من الشباب والطبقات الوسطى، الذين كانوا يشكلون العمود الفقري لدعمها.

الأزمة التي تعيشها الأحزاب اليسارية ليست مجرد أزمة زعامات أو استراتيجيات، بل هي أزمة هوية بالأساس. في عالم يشهد تغيرات اجتماعية واقتصادية متسارعة، تجد هذه الأحزاب نفسها عاجزة عن مواكبة مطالب الأجيال الجديدة التي تبحث عن سياسات براغماتية وحلول واقعية بدل الشعارات الرنانة. أضف إلى ذلك، ضعف البنية التنظيمية لهذه الأحزاب وتفاقم الانقسامات الداخلية التي حولتها إلى كيانات هشة لا تملك القدرة على خوض معارك سياسية حقيقية أو حتى الاستجابة لتحديات الواقع.

في المقابل، تعمقت الأزمة مع صعود تيارات جديدة تهيمن على الساحة السياسية، مثل الأحزاب ذات الطابع البراغماتي أو تلك المرتبطة بخطاب ديني. هذه التيارات استطاعت أن تملأ الفراغ الذي تركه اليسار، عبر تقديم خطاب أكثر قربًا من هموم المواطن البسيط. أما الأحزاب اليسارية، فقد ظلت متشبثة بخطاب تقليدي لم يتطور ليناسب التغيرات الكبرى في اهتمامات المغاربة، مثل قضايا التكنولوجيا، البيئة، والمساواة الجندرية.

ومع ذلك، فإن الحديث عن انتهاء دور الأحزاب اليسارية يبدو حكمًا متسرعًا. فهذه الأحزاب لا تزال تمتلك إرثًا تاريخيًا قويًا وقاعدة من المثقفين والمناضلين القادرين على إعادة بنائها. لكن ذلك يستوجب تغييرات جذرية تتجاوز حدود مراجعة البرامج والسياسات لتصل إلى تغيير عقليتها وأساليب اشتغالها. يجب أن تتحلى بالجرأة لتجديد قياداتها، والاستثمار في القضايا العصرية، والاقتراب أكثر من الفئات الشابة التي تبحث عن بديل حقيقي في ظل أزمة الثقة بالعمل الحزبي ككل.

الأحزاب اليسارية في المغرب تقف عند مفترق طرق. إما أن تتخذ قرارات شجاعة تعيد لها مكانتها في المشهد السياسي والاجتماعي، أو أن تستمر في الانكماش حتى تصبح مجرد ذكرى تاريخية. في بلد يشهد تحولات عميقة، فإن الحاجة إلى يسار قوي وفعّال تظل قائمة، ليس فقط كجزء من التعددية، بل كضرورة لضمان توازن المشهد السياسي وضمان تمثيل قيم العدالة والمساواة في صلب النقاش الوطني.