عندما يتقاطع الحبر بالقانون… وهبي يعيد رسم مهنة التوثيق بأفق إنساني وعالمي

في قلب الرباط، حيث يلتقي التاريخ بروح الإصلاح، استقبل وزير العدل عبد اللطيف وهبي وفدًا من مجلس إدارة المعهد الدولي لتاريخ التوثيق، في لقاء لم يكن بروتوكولياً فقط، بل محمّلاً بشحنة رمزية عالية: التوثيق ليس مجرد عقود وأختام، بل ممارسة إنسانية تحفظ الحقوق وتُقنن الحياة.

في زمن باتت فيه الوثيقة لا تقل أهمية عن العدالة ذاتها، جاء هذا اللقاء ليحفر عميقًا في صلب مهنة تعيد ترتيب علاقة المواطن بالقانون، والأسرة بالمؤسسات، والملكية الفردية بالمجتمع. وهبي، الذي ارتدى هذه المرة عباءة المدافع عن “توثيق إنساني”، لم يتردّد في الإشادة بعمق العلاقة بين الموثقين المغاربة ونظرائهم الفرنسيين، لكنه أراد لها اليوم أن تتجاوز الإعجاب المهني إلى “شراكة فكرية وقانونية” حقيقية.

حديث الوزير لم يكن جامدًا. تطرق إلى قضايا تمس نبض المجتمع: حماية المرأة، صون حقوق الطفل، ضمان ولوج الفئات الهشة للعلاج… بل ولم يتردد في طرح سؤال قد يبدو حميميًا لكنه بالغ الأثر: ماذا عن بيت الزوجية حين يُغَيِّب الموت أحد الشريكين؟ هنا، يقترح وهبي بعين المصلح وقلب المشرّع، فتح المجال لاجتهادات قانونية جديدة، تنسج الخيط الرفيع بين العدالة والرحمة.

وفي المقابل، لم يأتِ رئيس المعهد الدولي، فيليب كايي، ليكتفي بعبارات المجاملة، بل عرض خريطة شاملة لمهنة الموثق، من تكوينه إلى موقعه في النظام القضائي، داعيًا إلى “تقارب لا ورقي” بل عملي، يجعل من الموثق جسراً لا يُرى لكنه يحفظ استقرار العلاقات بين الناس.

اللقاء، الذي وُصف بكونه الأول من نوعه بين أعضاء المعهد والمملكة، لم يكن مجرد محطة ضمن أجندة دبلوماسية للمهنة، بل إعلان ناعم عن دخول التوثيق المغربي مرحلة دولية، تُعيد رسم صورته ليس كخدمة إدارية، بل كركن أصيل من أركان العدالة الاجتماعية.

ربما لم يسمع كثيرون من قبل باسم “المعهد الدولي لتاريخ التوثيق”، هذا الذي يتخذ من باريس مقرًا، ويجوب العالم ليقرأ في سطور العقود ما وراء القوانين: ثقافات، تحولات، ورواسب تاريخية. لكنه اليوم، عبر هذا الحوار مع المغرب، يؤسس لفكرة مختلفة: التوثيق هو ذاك الفن الصامت الذي يحفظ صخب الحياة.

وفي حضرة رؤساء المجالس الجهوية للموثقين، ونائبة رئيس المعهد رتيبة السقاط، بدا أن الرباط لا تحتضن فقط لقاءً مهنياً، بل لحظة تأسيس لعهد جديد من “التوثيق الحي”، حيث يتحوّل العقد إلى شهادة إنسانية، والموثق إلى شاهد على العصر… بيده قلم، وبقلبه قانون.