في مشهد يُشبه أفلام الجاسوسية أكثر مما يشبه المراسلات الدبلوماسية، أوقفت السلطات الفرنسية موظفاً قنصلياً جزائرياً ووجهت له تهمة خطيرة تتعلق بملف اختطاف تعود وقائعه إلى العام الماضي.
فرنسا لم تتردد. القضاء تحرك، والملف فُتح، والموظف وُضع رهن الحبس المؤقت.
الجزائر؟ صرخت واحتجت ورفعت ورقة الحصانة. لا دفاع منطقي، لا تفنيد قانوني، فقط هستيريا سياسية معتادة من نظام اعتاد أن يكون الخصم والحكم في كل القضايا.
لكن فرنسا اليوم قالت: كفى.
البلاغ الجزائري المندّد لم يُفاجئ أحداً، لكنه فضح مرة أخرى منطق الدولة العميقة في الجزائر: حصانة القنصل؟ مقدسة. موقع هاتفه في مسرح جريمة؟ مؤامرة. توقيفه دون استئذان؟ اعتداء على السيادة.
أي سيادة؟ وأي قانون هذا الذي يمنح موظفاً دبلوماسياً الحق في الاختباء خلف الحصانة حين يُشتبه بتورطه في ملف جنائي ثقيل؟
حين يكون القنصل واجهة أمنية متحركة، فإن الحصانة تتحوّل من حماية إلى مهزلة.
الغضب الجزائري لم يكن من التوقيف في حد ذاته، بل من انكشاف اللعبة. من أن باريس لم “تنسّق”، ولم تُرسل برقية اعتذار، ولم تغضّ الطرف.
منذ متى يُطلب من القضاء الفرنسي أن يُراعي شعور أنظمة تحتال على القانون باسم السيادة؟
السلطات الفرنسية قدّمت حججاً ملموسة: الهاتف، الموقع، التحقيق، الشبهات. الجزائر ردّت بالخطابة: نوايا سيئة، مؤامرة، أزمة ثقة.
الحقيقة التي لا تريد الجزائر الاعتراف بها هي أن باريس لم تعد تشتري صمتها. العدالة في فرنسا ليست قاعة اجتماعات مغلقة يمكن التحكم في مخرجاتها.
وما يُخيف فعلاً هو أن ملف هذا القنصلي قد لا يكون سوى رأس جبل جليد من ملفات أكبر وأخطر.
فإذا كان هاتفٌ واحد قد فجّر كل هذا الغضب، فماذا تُخفي الملفات التي لم تُفتح بعد؟
الجزائر، التي تتهم الآخرين زيفاً بالإرهاب والمؤامرة، ترتبك اليوم لأن العدالة طرقت بابها.
لا لأن الموظف بريء، بل لأن اللعبة انكشفت.
وهذا هو الفارق بين دولة تُسيّس العدالة، ودولة تحررها من سلطة الحكومات.
من حق فرنسا أن تحاسب من يُشتبه في تواطئه على أرضها، ومن واجب العالم أن لا يقبل بتحويل الحصانات إلى حصون للهرب من المحاسبة.
الجزائر غاضبة؟ فلتغضب.
فالعدالة لا ترتدي علم أي دولة… بل ميزانها وحده من يتكلم.