مع بزوغ كل صباح، يشد العشرات من “صيادي الهمزة” الرحال إلى أسواق الخردة والمتلاشيات، يتنقلون بين “لافيراي” والأسواق الشعبية في هامش المدن كما في قلب الحواضر الكبرى، بحثا عن كنوز مادية في عالم لا يعترف بالفواتير، فقط بالخبرة و”ضربة الحظ”.
هؤلاء المنقبون في الخردة لا يقتصرون على الفقراء أو المهمشين فقط، بل يشملون أيضا من اعتادوا هذا النشاط كهواية، أو كمصدر دخل ضمن اقتصاد غير مهيكل يزدهر على هامش النظام الرسمي، و يحولون بقايا الأجهزة الإلكترونية والحديد والبلاستيك إلى موارد قابلة للبيع، ضمن ما يشبه “رحلة صيد” يومية تعكس ثقافة مجتمعية متجذرة في واقع اقتصادي هش.
الدكتور محمد بن عيسى، الباحث في علم الاجتماع، اعتبر هذا الإقبال المكثف على الأسواق العشوائية تعبيرا عن واقع اجتماعي يزداد هشاشة، حيث تدفع القدرة الشرائية المتدهورة، خاصة في صفوف الطبقة المتوسطة والدنيا، إلى البحث عن بدائل للعيش عبر الاقتصاد الموازي.
وأوضح بن عيسى، ضمن تصريح له، أن هذه الظاهرة تشكل جزءا من منظومة اقتصادية غير رسمية تعيد تدوير السلع خارج الإطار المؤسسي، مشددا على أنها رغم غياب الاعتراف الرسمي، تساهم فعليا في توفير فرص الشغل وتلبية احتياجات شرائح واسعة من المواطنين.
وأضاف الباحث أن الإقبال على هذه الأسواق لا يفسر فقط بالعوامل الاقتصادية، بل يتداخل فيه البعد الثقافي، حيث تتحول “الهمزة” إلى رمزية تشبه مغامرة اكتشاف “كنز مدفون”، ما يعيد إلى الأذهان تمثلات شعبية راسخة تتعلق بالحظ والقيمة المخبأة وسط الفوضى.
من جانبه، يرى الدكتور كمال الزمراوي، أستاذ علم النفس بجامعة القاضي عياض، أن ظاهرة البحث عن المتلاشيات ليست وليدة اليوم، بل لها امتدادات في المجتمعات التقليدية، وترتبط أساسا بسوء الاندماج المهني والاجتماعي لدى فئات لم تجد موطئ قدم في سوق الشغل النظامي.
وأشار الزمراوي إلى أن ما يعرف بـ”البوعارة” و”الميخالة” يمثل نماذج لهذه الظاهرة، حيث يجبر الأفراد على تحويل الإكراه إلى فرصة، وتعويض غياب “الهمزة” المهنية بأخرى بديلة من القمامة والمتلاشيات.
كما لفت إلى أن بعض من يمارسون هذا النشاط ليسوا بالضرورة فقراء، ما يطرح أسئلة أعمق حول الأبعاد النفسية والثقافية المتحكمة في هذا السلوك.
وأكد الزمراوي في ختام حديثه أن هذه الظاهرة تستحق مقاربة علمية شاملة، تتداخل فيها الرؤية السوسيولوجية والسيكولوجية، لفهم دينامياتها وتداعياتها على البنية الاجتماعية والاقتصادية في المغرب.