تعيش المستشفيات العمومية بمدينة مكناس أزمة صحية خانقة وغير مسبوقة، بسبب النقص الحاد في أطباء الإنعاش والتخدير. هذا النقص أدى إلى تعطل شبه كامل للعمليات الجراحية وتأزم الخدمات الاستشفائية بشكل خطير. وتزداد خطورة الوضع مع إحالة الأطباء على التقاعد، دون تعويضهم بأطباء جدد، ما جعل مستشفيات كبرى مثل محمد الخامس، مولاي إسماعيل، وسيدي سعيد تعمل في بعض الأحيان بطبيب تخدير واحد فقط، رغم الأعداد الكبيرة من المرضى الذين يحتاجون إلى عمليات جراحية عاجلة.
في السياق ذاته، تراجع عدد أطباء الإنعاش والتخدير في القطاع العام بمكناس بشكل كبير، إذ انخفض العدد من 196 طبيبا قبل جائحة كورونا إلى ما بين 28 و32 طبيبا حاليا. هذا التراجع الحاد أدى إلى شلل شبه كامل في المركبات الجراحية، وتوقف عدد من العمليات الجراحية الضرورية، خصوصا في تخصصات حيوية مثل جراحة العيون، الأنف والأذن والحنجرة، والوجه والفكين.
لجأت الجهات المسؤولة إلى حلول مؤقتة، من خلال التعاقد مع أطباء للتخدير والإنعاش عبر إحدى الجمعيات، بشراكة مع مجلس العمالة. غير أن هذه الإجراءات لم تكن سوى مسكنات مؤقتة لم تحل الأزمة من جذورها، وظلت مجرد حلول ترقيعية لا تضمن استقرار الخدمات الصحية ولا توفر حلا دائما يطمئن المرضى.
عبرت العديد من الجهات الطبية والنقابية عن استيائها العميق من استمرار استنزاف الكفاءات الطبية، وعدم قدرة القطاع العام على الاحتفاظ بأطباء التخدير والإنعاش، الذين يفضلون الالتحاق بالقطاع الخاص بحثا عن ظروف عمل أفضل وأجور أكثر جاذبية.
تصاعدت الأصوات المطالبة بتدخل عاجل من وزارة الصحة لإنقاذ الوضع قبل فوات الأوان. فقد وجه النائب البرلماني زكرياء بن وناس سؤالا كتابيا إلى وزير الصحة، طالب فيه بالكشف عن التدابير العاجلة لمعالجة هذا النقص الخطير الذي يؤثر بشكل مباشر على برمجة العمليات الجراحية، وتعطيل الحالات الاستعجالية.
في مستشفيات مكناس، يقابل 23 تخصصا جراحيا طبيب إنعاش واحد فقط، وهو ما يمثل خللا قاتلا في التوازن الوظيفي. فالجراحة دون إنعاش تعني ببساطة زيادة نسبة الوفيات وتفاقم المضاعفات، ولا يعقل أن تتوفر بنية جراحية دون ظهر إنعاشي قوي؛ فالناتج الطبيعي هو تقليص عدد العمليات وتحول المستشفى إلى مجرد مركز تحويل بدل تقديم العلاج الفعلي.
ولا يتجاوز عدد العمليات المستعجلة سوى 658 عملية سنويا، أي بمعدل أقل من عمليتين مستعجلتين في اليوم الواحد، في وقت يفترض أن يستوعب مستشفى شبه جهوي يخدم مليون نسمة عددا أكبر بكثير لتلبية احتياجات المرضى المتزايدة. أما العمليات المبرمجة، فلا تتجاوز 1212 عملية سنويا، بمعدل 3.3 عمليات يوميًا، وهو رقم متدن يعكس الخلل العميق في البنية الصحية، وغياب التوازن بين الحاجة الفعلية والقدرة التشغيلية. هذه الأرقام المخجلة تؤكد أن الجراحات الضرورية باتت مؤجلة أو شبه متوقفة، وأن المستشفى تحول إلى محطة عبور للمرضى، عوضا عن أن يكون مركزا للعلاج وإنقاذ الأرواح.