مجتمع

وليدات السيليسيون.. أو حين يسكن أطفال المغرب العميق مدن الحضارة ومؤسسات الدولة ووزارة التضامن و”الشكلي فالعكلي”..!!

حمزة لخضر يكتب..

كنت أعد العشاء في تلك اللحظة التي تناهى إلى مسامعي صراخ طفولي، ظننته أول الأمر شغب عادي لأطفال عاديين، غير أنني تساءلت كيف يحدث هذا في هذه الساعة المتأخرة من الليل وفي زمن الكورونا وساعة الحظر الليلي.

حين أخرجت رأسي من شرفة المطبخ وجدتهم أطفالا خارج الزمن، وخارج الأحداث وخارج كل ما يقع هنا، كانوا يتبادلون فيما بينهم علبة “سيليسيون” وينفخون في أكياس بلاستيكية هواء طفولتهم ويستنشقون بدلا منها هواءً مسموما قاتلا للطفولة وبراءتها ونقائها في بلد “زيرو ميكة”..

تساءلت وقتها مع نفسي وقلت أين هي جمعيات المجتمع المدني تلك التي تظهر على شاشة التلفزيون، وأين هم المسؤولون الذين صدعوا رؤوسنا بالأجيال القادمة دون أن ينتبهوا لهذا الجيل الذي يضيع أمام أعيننا وعلى مقربة منا، وأين هي وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية و”الشكلي فالعكلي”..!!ظاهرة أطفال “السيليسيون” بين أطفال الشوارع الذين سقطوا من مفكرة المسؤولين والمنتخبين والبرلمانيين والبرمائيين، أصبحت مشهدًا عاديا ومألوفا بسبب تطبيعنا مع الصمت اتجاه الظاهرة دون حتى أن نجد لها جميعا حلا جذريا يجتثها من أساسها وفق مقاربة تشاركية نساهم فيها جميعا أفرادا ومؤسسات.

بالقرب من المحطات وتحت الشاحنات الكبيرة والصغيرة وعلى جنبات الأرصفة وفي الأزقة المظلمة وبالقرب من المطاعم ينتشر “وليدات السيليسيون” باحثين عن شيء لا يعرفونه هم، والأخطر من هذا أن هذه الظاهرة لم تعد حكرا على الذكور فقط بل تعدتها لتشمل الإناث، وهو ما معناه زيادة نسبة الاغتصاب والاعتداءات الجنسية ومواليد جدد سيكون بيتهم هو الشارع والرصيف.
علينا الاعتراف في كل مرة يظهر فيها طفل جميل المحيا على شاشة التلفزيون يشرب السعادة في كأس كان مزاجه حليبا، أن هذا لا يمثل واقعنا مع الأسف وأنه ربما وراء محطات التلفزيون والإذاعات عدد لا بأس به من أطفال الشوارع الذين يشربون “لانكول” ويستنشقون “السيليسيون” لا حظ لهم من الأضواء إلا أضواء الشوارع الباهتة، ولا عزاء لهم إلا الأرض التي يفترشونها ولون السماء الذي يلتحفونه.

قبل تسعة عشر عاما تم عرض فيلم علي زاوا على القناة الثانية، ويومها أثار هذا الفيلم ضجة كبيرة في مختلف الأوساط، إلى تلك الدرجة التي أطل من خلالها صلاح الدين الغماري معتذرا عما أسمته القناة الثانية هفوة لن يتكرر السقوط فيها، عِلما أن الفيلم قدم الحقيقة فقط في قالب درامي وسينمائي واقعي، وقد نتفق مع مقدم النشرة في الاعتذار عن بعض الكلمات والمشاهد التي رافقت الفيلم خصوصا وأنه عرض على قناة عمومية يشاهدها المغاربة أجمعين وبعض الكلمات والمشاهد كانت قاسية وخادشة للحياء العام، لكن إذا ما نظرنا للشق الأكبر من الفيلم فعلينا أن نشكر القناة الثانية التي انفردت بعرض واقع أليم تعيشه فئة من أبنائنا وبناتنا والذين هم من نسيج هذا المجتمع شئنا أم أبينا.
واقع بدون مساحيق للتجميل وبدون “بودرة” للتبييض.
واقع كما هو بِغُباره وسحابة دخانه القاتمة السواد، ومشاهد الألم التي يعيشها هؤلاء وبشكل يومي دون أن يتدخل أحد ما أو أن تجد الدولة حلا للتصدي لهذه الظاهرة واحتوائها وتحويل هذه الفئة إلى موردٍ بشري من الممكن أن يفعل ما عجزنا نحن جميعا عن فعله إن هو لقي اهتماما واحتضانا لا نكرانا وإقصاءً وسياسة “عين ميكة” التي نمارسها جميعا بدون استثناء، والاختلاف هنا يكون فقط بين من يملك شيئا ليفعله ومن لا حيلة له إلا “الْحَوْقَلَة”.
منذ أن وعينا ونحن نكتب عن ظاهرة أطفال الشوارع في الإنشاءات المدرسية وتجتر واقعهم الذي حفظناه بعض الجمعيات التكَسُّبية، وتملأ بهم الجرائد ركنا لم تجد له موضوعا فاختارت ما هو موجود ومستهلك ولم يعد بحاجة لا للتعريف ولا للتصوير حتى يصل أمرهم إلى من يهمهم الأمر.
ما تحتاجه هذه الفئة اليوم أن نقف وقفة صريحة مع أنفسنا، ونتساءل فقط ماذا لو أن أحد أبنائنا أو بناتنا تاه منا وأضعناة وأصبح فجأة طفل شارع يستنشق سموم “السيليسيون”..؟
هل كنا حقا لنشاهد الأمر من الزاوية التي نطل منها جميعا نحن الذين لا توجد أيادينا في الإناء الساخن جدا..؟
بما سيشعر الواحد منا وهو يتأبط “كارتونة بيتزا” حين يشاهد طفلا في سن ابنه وهو يأكل من القمامة وفضلاتها..؟
أم كنا سنتحرك بما تفرضه علينا قوانين الإنسانية والمواطنة والإحساس بالأبوة والأمومة اتجاه هذه الفئة التي قادتها ظروف ما إلى الشارع لتُصادق الكلاب في زمن غاب فيه الإنسان.

وبماذا ستشعر أنت سيدي حين تمد قدمك لطفل في سن ولدك “باش يسيري صباط” فخامتكم وأنت مزهو على كرسيك في المقهى وتقرأ في الجريدة تحقيقا عن أطفال الشوارع و” السِّيرورا”..؟
وليكون السؤال دقيقا كيف تشعر معالي وزيرة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية وهي تجلس في مكتبها المُكَيَّف وأطفالٌ وزارتها مسؤولة عنهم يجوبون شوارع المدن ويمرون من أمام مكتبها ربما، ومن أمام البرلمان ومختلف مؤسسات الدولة دون أن ينتبه لهم أحد..؟

لقد تعمدت خلال هذا المقال عدم نشر الأرقام والإحصائيات ونواقيس الخطر التي دقتها وتدقها المنظمات التي تحترم نفسها، واكتفيت فقط بتحريك ما بقي مني شخصيا ومن الذين سيقرؤون هذه السطور شيئا من الضمير الإنساني، الذي أرهقته الأنانية في الحصول على حياة كريمة دون الانتباه لحياة أطفال كثر يمشون معنا ونصادفهم كل يوم.

علينا قبل أن نشمئز من روائحهم ونستهجن تصرفاتهم وسلوكهم وعدوانيتهم في أحايين كثير علينا أن نعترف بأننا جناة بالصمت في حقهم وأننا نحن من حولنا براءة ملامحهم بقسوة الصمت والتغاضي.
وللجهات المسؤولة والتي تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية ضياع هؤلاء لا أستحضر إلا هذه الآية الكريمة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ” وَقِفُوهم إنهم مسؤولون”.

حين تعودون لمشاهدة فيلم علي زاوا ستكتشفون أن عليا كان يريد أن يكون بحارا، وستكتشفون أن من بين هؤلاء لو جلست معه وفتحت قلبك له واطمئن لك سيخبرك بأنه كان يريد أن يكون طيارا أو ممثلا مرموقًا أو ربما مقدم نشرة إخبارية يقول فيها “إليكم هذا الخبر العاجل : لقد تم القضاء على ظاهرة أطفال الشوارع بالمغرب تماما وأن كل الأطفال باتوا يعيشون في مآوي آمنة ويتابعون تعليمهم بشكل صحيح، نهاية النشرة الحلم إلى اللقاء.

قد يعجبك ايضا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق