بين الرقابة والمحاسبة.. هل يفتح مجلس الحسابات نافذة الإصلاح في مقاطعات الدار البيضاء؟

حين يطرق قضاة المجلس الجهوي للحسابات أبواب مقاطعات مدينة كالدار البيضاء، فذلك ليس مجرد إجراء إداري روتيني، بل مؤشر قوي على لحظة مساءلة طال انتظارها، تتقاطع فيها أسئلة الحوكمة، والشفافية، وربما أيضاً المحاسبة.
الدار البيضاء، باعتبارها أكبر تجمع حضري واقتصادي في المملكة، لطالما شكلت نموذجاً معقداً في تدبير الشأن المحلي. فعدد مقاطعاتها، وتنوع حاجيات ساكنتها، والضغط المتزايد على بنياتها التحتية وخدماتها، كلها عوامل تجعل من تدبير الميزانيات عملاً بالغ الحساسية يتطلب كفاءة وصرامة في التسيير.
اليوم، ومع الإعلان على أن قضاة المجلس الجهوي للحسابات بجهة الدار البيضاء-سطات سيشرعون، انطلاقاً من فاتح يوليوز، في افتحاص دقيق لميزانيات وتدبير مقاطعات المدينة الستة عشر، تطرح علامات استفهام عديدة، بعضها يتصل بالمآل، وبعضها الآخر بالمنهج.
فمن حيث المبدأ، لا يمكن إلا تثمين هذا النوع من الرقابة المؤسساتية، التي يخولها الدستور المغربي باعتبارها إحدى أدوات تقويم الأداء العمومي. لكن المنطق يفرض أن لا تُحمَّل هذه الرقابة أكثر مما تحتمل، فهي ليست محاكمة علنية ولا تصفية حسابات سياسية، بقدر ما هي آلية لتقييم مدى احترام قواعد التدبير المالي والإداري.
كما أن أهمية هذه العملية تتجاوز الطابع التقني للافتحاص، لتطرح سؤالاً أعمق: ماذا بعد؟
هل تتحول تقارير المجلس الجهوي للحسابات إلى مجرد وثائق أرشيفية، تُطوى في رفوف المؤسسات، أم ستؤسس لتصحيح مسارات، ومحاسبة المتورطين في أي تجاوزات إن وُجدت، وتحفيز المتفوقين في حسن التدبير؟
من الإنصاف القول إن المجلس الجهوي لا يملك سلطة قضائية للزجر أو المعاقبة، لكنه يمتلك سلطة الكلمة، والتقرير، والتوجيه، وهو ما يُفترض أن يُسهم في تحسين مناخ الثقة بين المواطن والمؤسسات، شريطة أن لا تبقى تلك التقارير حبيسة السرية أو “بلاغات المناسبات”.
أيضاً، يُطرح تساؤل حول مدى جاهزية المقاطعات ذاتها لهذا النوع من الرقابة، سواء من حيث الوثائق، أو من حيث النية الحقيقية في التعاون. فالتعامل مع المجلس الجهوي للحسابات يجب أن يكون بروح الشفافية، لا بروح الدفاع أو التبرير، لأن الهدف الأسمى ليس “تبييض” التجارب، بل فهم مكامن الخلل والاشتغال على معالجتها.
إننا في مرحلة لم يعد فيها ممكناً التساهل مع تدبير المال العام، ولا القبول باستمرار غموض المساطر، أو ضعف النجاعة، أو سوء الأولويات في صرف الميزانيات. لذلك، فإن افتحاص مقاطعات الدار البيضاء يجب أن يُنظر إليه كفرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي للجماعة، وليس فقط كإجراء محاسبي ظرفي.
الكرة الآن في ملعب الجميع: المجلس الجهوي، المنتخبون، السلطة المحلية، والإعلام، وأيضاً المواطنون. فالتغيير لا يحدث بالتقارير وحدها، بل بوعي جماعي يطالب، ويراقب، ويُحاسب.
في انتظار ما ستسفر عنه نتائج الافتحاص، يبقى الأمل معلقاً على أن يتحول صوت المجلس الأعلى للحسابات من مجرد رقيب صامت إلى محفز على التحول، ورافعة لتكريس الشفافية والفعالية في تدبير شؤون أكبر مدينة في المغرب.