بالأمس وأنا أستعد للنوم، وعند منتصف الليل جاءني اتصال عاجل يخبرني أن إحدى المصحات الخاصة بالبيضاء رفضت استقبال الدكتور محمد طلال، الذي أَلَمَّت به وعكة صحية جعلت وضعيته غير مستقرة واستدعت نقله على عجل إلى المستشفى.
حاولت مرارا أن أتخلص من وضع مقارنات بيننا وبين بلدان أخرى، وفي كل مرة أجدني مُرغماً على تفعيلها رغم رغبتي الجامحة في إلغائها، غير أن ما حدث بالأمس ويحدث يوميًا وسيحدث لا محالة في المستقبل يفرض علينا لِزاماً أن نتوقف مرة أخرى أمام يافطة رَفعها الذين مَرُّوا قبلنا، ونرفعها اليوم عاليا وهي ضرورة إصلاح هذا القطاع الحيوي، الذي توضع على أكُفِّه أرواح وصحة المغاربة أجمعين.
شيء غريب ومرفوض وغير إنساني أن تعمد مصحة خاصة إلى رفض استقبال رجل يعاني ضيقا في التنفس، وتتركه في الخارج على كرسيه المتحرك يَئِنُّ بصمت تحت سماء وطن دافع فيها عن الحق في التعليم والحق في التطبيب والحق في الحلم والحق في التعبير والحق في التحليق عاليا، للارتقاء بوطن نحبه أكثر من أي شيء آخر، لِيَجِدَ نفسه في مواجهة جشع أُناسٍ المفروض أنهم جاؤوا لينقذوا الأرواح ويمنحوا للأجساد العليلة فرصةً للشفاء، أناسٌ ربما وهم يدرسون مهنة الطب لم يدرسوا معها أن آخر ما يجب مناقشته هو كلفة العلاج التي مهما غلا سعرها وارتفعت فاتورتها لا تساوي شيئًا أمام حياة إنسان وجب إنقاذها.
في كل يوم يمر تزداد بعض هذه المِصحَّات حتى لا نسقط في فخ التعميم تَوَحُّشاً وَتَغَوُّلاً، وعوض أن تبني أساساتها على العناية بالمريض وتقديم العلاجات المناسبة له وجعله يشعر أن حياته مهمة، حولت أشرف مهنة إلى مجرد تجارة تقوم على مبدأ الربح وتحقيق المكاسب المادية المهمة، من خلال تَسْليعِ المرضى وجعلهم أدوات للدفع يتطلب علاجها عدة مراحل، وفي كل مرحلة لابد من الدفع عملًا بمبدأ “دونالد ترامب” “عليك أن تدفع”..!
وكم من مريض دخل مصحة خاصة يعاني من شيء بسيط ليجد نفسه في دوامة التحاليل المخبرية وأجهزة الفحص بالأشعة تتقاذفه المختبرات يمنةً ويسرةً أمام صمت الجهات الوصية على القطاع وغياب مراقبة لصيقة وواضحة تضع حدا لهذا التلاعب الخطير والتَّسَيُّب الذي يضر بالوطن قبل كل شيء.
لقد وقفنا طيلة أشهر الجائحة ونحن نرفع القبعة عاليا لأطقمنا الطبية التي نكرت ذاتها وقدمت تضحيات جسام في مواجهة أشد الفيروسات فتكًا على وجه الأرض، لكن هذا لا يمنع أن هناك بين هذه الملائكة ملائكة آخرون ولكنهم بدل أن يشعروك بالرحمة يعذبونك على نار هادئة تشتعل عند آخر صفر بعد سلسلة طويلة من الأصفار في الفاتورة التي عليك أن تدفعها.
وأما القطاع العام فحدث ولا حرج، فقد ملاذا للفئات المسحوقة حد الاندثار والهشة حد الكسر والفقيرة إلى الله وكلنا فقراء إلى الله ولا نرجوا إلا رضاه، هذه الفئة تأتي مرغمة ومكرهة بعد أن استنفذت كل حل مع نباتات “المخينزة ويازير والكمون” وبعد أن ملأت جسدها “كَيّاً بالنار” لمحاربة “بوصفير”، لتجد نارا أخرى مستعرة من قلة الاهتمام وعدم تقديم الرعاية اللازمة فيكون الحل للتخلص منك، هو منحك أجلًا بعيدا قد ينقضي أجلك حتى قبل بلوغه، وليرحم الله روحا حاولت أن تعيش.
في حالة الدكتور محمد طلال تم تشخيصه بأنه مريض بفيروس كورونا اعتمادا على رؤية ثاقبة من خبراء المصحة “الواعرين بزاااف” بناءً فقط على صعوبة التنفس لديه ودون حتى أن يقوموا بفحصه، والحقيقة أن الرجل يعاني من مرض “باركينسون” الذي يمنع الأوكسجين من الوصول بشكل صحيح إلى الدماغ، وبعد أن تدخلت أسرته وأجرت اتصالات كثيرة بحكم قيمة الرجل ومعارفه الذين يحترمونه سواء اتفقوا أو اختلفوا معه، تم أخيرا استقباله لكن بشرط الدفع، والدفع هنا يعني فاتورة قال عنها ابنه مدير جريدة le7tv أنها خيالية، مُحملا مسؤولية ما قد يحدث لوالده لهذه المصحة.
فإلى متى سنظل رهائن للوساطة والأرقام الهاتفية خصوصًا تلك التي تبدأ بواحد وستين..؟
وإلى متى سيظل الإنسان آخر هم الكثيرين من الجشعين والمتوحشين الذين يسيؤون لقطاع لون وزرة أصحابه بيضاء وقلوبهم قاتمة السواد..؟
وإلى متى سيظل هذا الصمت على تجاوزات بعض المصحات الخاصة مطبقًا حدَّ الألم..؟
لقد صار لزامًا على الجهات المسؤولة والفاعلة من وزارة الصحة إلى فعاليات المجتمع المدني وما بينهما أن يتدخلوا لوضع حد لهذا النزيف، نزيف الإنسانية على قارعة التجارة بصحة الناس، ونزيف الضمير المستهتر واللامُتَّصِل بالقيم النبيلة، ونزيف الصمت الآخذ في الاتساع طولًا وعرضًا.
نناشدكم الله أن تتدخلوا ليعيش من لا يملك حتى الهاتف، وإن امتلكه لن تجد فيه رقما يبدأ بواحد وستين.
اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد..